رحم الله ابن المقفع فقد كان فريداً في عصره، وكتب كتاباً فريداً بين الكتب هو «كليلة ودمنة» أجراه على لسان الحيوانات في حكايات حافلة بالعظة رواها بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك، ما زلنا نرددها حتى الآن، بعد قرون من الزمن على كتابتها، وكأنها كتبت بالأمس
وكان ابن المقفع فريداً في طريقة موته أيضاً، فقد أمر أحد الولاة بربطه بالحبال، وانهالت عليه السكاكين تقطع لحمه قطعة وراء الأخرى، ثم تلقى القطع في النار أمام ناظريه، ومع ذلك فإنه لم يضعف ولم يتراجع عن مواقفه، ولم يستجد من جزاره الرحمة، وإنما قال له وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: «... إذا ما مات مثلي/ يموت بموته خلق كثير/ وأنت تموت وحدك ليس يدري/ بموتك لا الصغير ولا الكبير».
والذنب الذي قاد ابن المقفع إلى هذه النهاية المأساوية هو أنه تلفت حوله فوجد الفساد يستشري في كل مؤسسات الدولة آنذاك، الإدارية والمالية والعسكرية، ووجد الخلل يتسلل إلى المسؤولين عن طريق مجموعة من الوصوليين احترفت التزلف إلى أولي الأمر لتضليلهم وحجب الحقيقة عنهم، فالأموال الجمة التي يجري جمعها من كل أقطار الدولة يجري نقلها إلى العاصمة بغداد من دون سجلات تضبطها ولا قوائم يمكن الرجوع إليها لمحاسبة الجباة على ما تحت أيديهم من أموال، وقادة الجند يعيثون في الأرض فساداً وينشرون دعاوى الذل والخنوع بين الناس، وبطانة المسؤولين في الدولة مجموعة من المنتفعين الذين يبحثون عن المغانم لاقتناصها بأسهل الطرق، فكتب رسالة سماها «رسالة الصحابة»، قال فيها: «إن السكوت على الخطأ جريمة»، ودعا إلى إصلاح الأمور بإبعاد المنتفعين عن البلاط ووضع قانون رسمي يلتزم به القضاة في كل أنحاء الدولة، ومنع الجنود من التدخل في الشؤون المالية وجبي الضرائب لكي لا يعتز القادة بنفوذهم ويظلموا الناس.
ويتفق العلامة أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام» مع المقترحات التي طرحها ابن المقفع ويرى أنها تتفق في كثير من نواحيها مع الآراء الحديثة في إدارة الدولة، ويقول: «لو عمل المسلمون بها لكان لها أثر كبير في الإصلاح السياسي والقضائي»، بينما يربط يوسف أبو حلقة بين مقترحات ابن المقفع الخاصة بإصلاح النظام القضائي ومشروع نابوليون بونابرت حين دعا لجنة من كبار رجال القانون وطلب منهم توحيد القانون الفرنسي فيما عرف باسم «قانون نابليون».
والغريب أن الدولة أخذت بالمقترحات التي وردت في «رسالة الصحابة»، ولكن بعد رحيل كاتبها.
وعلى هذا النحو البشع تم القضاء على أديب من الأدباء البارزين في تاريخنا، وصفه الجاحظ بقوله: «كان جواداً فارساً جميلاً»، وقال عنه أحمد أمين: «إنه من أقوى الشخصيات في عالم الأدب العربي: قوي في خلقه، وقوي في عقله وعلمه، أما خلقه فنبل وكرم، ورغبة شديدة في الإصلاح».
Sent from my iPad 2 - Ť€©ћ№©¶@τ
No comments:
Post a Comment